الشاعر عبد الكريم كاصد : ما أخشاه جفاف مداد الحياة لا جفاف قلمي ...

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
21/08/2013 06:00 AM
GMT



عندما قرأت قصيدته (الغرف) التي يرجع تاريخ كتابتها الى العام 1974، أيقنت أنها ربما تكون تميمة الشاعر الجوّاب ونبوءته، وانها أثيرة لديه كما يبدو لي ، فعلى مدار خمسة وثلاثين عاما وهو دائم التجوال بحثا عن غرفة بحجم الوطن .. شبيهة بتلك الغرف التي ترعرعت في وجدانه وضميره، هل كان الشاعر نزيلا مزمنا في ذلك الفردوس المفقود؟ شأنه تماما شأن جميع الشعراء الملسوعين بداء التجوال وأعراض الرياح الموسمية في مرحلة معينة من حياتهم وأحيانا حتى آخر يوم في حياتهم ؟ لا أدري !! : العتمة المتغلغلة في تلك الغرف ، البحث عن علبة الثقاب، الثياب المعروضة للبيع، الاثاث كذلك، محملة على العربات، قرقعة العجلات ، الرؤوس المطلة على السلالم ، الخطى، الاصدقاء وهم يعدون الشاي، ويستقبلون النساء ، ابواب الفنادق، المفاتيح ، نوم الظهيرة ، الماء الشحيح ، المنشفة المتدلية من حبل الغسيل ، السقف الواطيء، الرائحة المنبعثة، صهيل الاسرة المربوطة، بكاء المجاذيب على القوارب المرسومة على الجدران، الجنود المصابين ، الامهات ، أعشاش العصافير المدسوسة في السقوف، المواخير المفتوحة على الدوام، انين المراوح، لوعة الاحساس بزوال آثار الخطوات المطبوعة على الرمل و .. و .. و .. الخ
 الا يعد حنين الشاعر الى اشيائه الحميمة أشبه بحنين الطفل إلى مشيمته ؟
 انها محنة لا يسبر غورها الا العصافير وباعة البالونات الملونة إزاء دهشة الاطفال والملائكة.
محنة الشاعر مع فردوسه المفقود محنة ازلية، لكن ما هو اقسى من هذه المحنة .. محنة الاحساس بضياع جميع المفاتيح التي تؤدي الى أبواب ذلك الفردوس .. !
هذا حوار مع شاعر آثرنا أن يكون من البصرة مدينة الشعراء، وحامل اسم أحد مرابدها ، عبد الكريم كاصد الشاعر الذي يعلن بلا مواربة وبكل هدوء أنه : ليس سهلاً أن يكون الكاتب في الهامش، قد يكون الهامش أحيانا أكثر تأثيراً من متنٍ زائف !
وهذا ما يتوجب علينا القيام به في أوساطنا الثقافية، إهمال المتون الزائفة والملفقة عن سابق إصرار وترصد وسبر أغوار الهوامش المليئة بالبذور والعافية والنبوغ .

س1 / على مدار أعوام وأنت بعيد عن الوطن ، ماذا اضافت الغربة في شعرك ؟

* لا أدري ما الذي أضافته إلي. ولكنني أدرى بما أخذته مني. وما أخذته مني من الصعب الإفضاء به هنا في كلمات، أو سطور، ولربما أفصح عنه شعري، أو سيفصح عنه، ولكن المحصلة لن تسرني أبداً في الإفصاح، أو عدمه، لأن التجربة اكتملت وما أتحدث عنه الآن إنما هو ندوبٌ أو آثار، ولعلّ حديثي عنها استعادةٌ، فيها شئ من عزاء ما .. استعادة طللية لن تفصح عن شئ حتى لي أنا، لانّ منطقتها هي منطقة الشاعر الذي لم يعد يقف هناك في ذلك المكان الواضح، كما كان يفعل الشاعر القديم، بل هي تلك المنطقة التي اكتست بالظلال والعلامات والرموز .. لا أدري.
لم يكن المنفى احتمالاً لنختاره، لقد أجبرنا عليه، فلم نعد نسأل عما أضافه إلينا، أو أخذه منا، لقد عشناه تجربة بسلبها وبإيجابها، ولعلّ حسناته التي تتمثل بخدماته الحضارية العديدة لم تلغ الإشكالات العميقة التي هي في جوهر أنظمة المنفى، ومجتمعاته، والتي يعاني منها أبناؤنا أيضا، ولعلّ قراءاتنا السابقة عن هذه المجتمعات وأنظمتها لم تكن خاطئة تماما، في تحليل بنيتها وبعض ظواهرها التي نتلمسها الآن، وقد لا يتلمسها البعض منا، ولكن هذا لا يعني عدم وجودها: الاغتراب، التشيؤ، الهوة العميقة بين الذات وموضوعها ... إلخ.
المنفى إذا صحّت الإستعارة هو منطقة الأعراف التي يتطوح فيها المنفيون. مجاورون للجحيم، مثلما هم مجاورون للفردوس، ولكن لن يكونوا في أحدهما أبداً، أو في الفردوس على الأقلّ. ولعلّ مصيرهم هذا، وأقصد هنا العراقيين بالذات، ظلّ يطاردهم حتى بعد زوال مسببات نفيهم، فمن عاد إلى وطنه لم يعد إلى فردوسه المفقود، ومن عاد إلى منفاه لم يعد إلى منطقة أعرافه السابقة. ولعلّ هذا ما سيجعل العراقيّ المنفيّ ساخطاً على وطنه ومنفاه معاً، ولعلّ هذا أيضاً يعبّر عن أعمق ما يحمله المواطن المعاصر، مجسّداً في العراقيّ، من رفض لهذا العالم الذي فقد منطقه لنرى من جديد أوطاناً هي المنفى ذاته، وأزمنة غابرة هي التي تتحكم بزمننا. غير أن المنفى بصيغة المفرد لا الجمع يبقى تجربة شخصية شديدة الخصوصية ما يجعل ايّ منفيين اثنين لا يتشابهان أبدا، وهذا وجهٌ آخر من وجوهه العديدة الأشدّ مرارة.


س2 / البعض يقول ان الشعر اخذ يتراجع كوسيلة للتعبير عن الذات بحاجاتها واحلامها وعذاباتها، فما رأيك؟

* مثل هذه الأحكام لا تؤخذ على محمل الجدّ. إن اكتشاف الشعر الجيد يتطلب ذائقة وثقافة واسعتين هما غير متوفرتين في العديد من نقادنا. في كل شئ يمكن الحديث عن العام بسهولة إلا في الشعر. وهؤلاء المتلبسون بما هو عام في الشعر تكشف أحكامهم هذه عن ضيق خصوصيتهم، إن لم نقل ضحالتها.
في مثل هذه الأحكام يتساوى الجيد بالردئ لا في الشعر وحده، وإنما في النقد ذاته باعتباره فرزا وتحديدا وضوءا أيضا، في مسار العملية الشعرية. ما نراه هو العكس: التقريظ في النقد لما هو ردئ في الشعر.
وإذا ما كان الشعراء تغفر لهم إمكاناتهم التي قد لا تسعفهم على كتابة الشعر الجيد، فكيف نغفر للنقد هفواته في مديح ما هو ردئ، والغفلة عمّا هو جيد وهذا ما طرحه الجرجاني في موازنته.
لا يستوقفني تراجع الشعر وهو الفن الصعب الذي يكتبه الكثيرون ولا يجيده إلا القليلون، ولكن ما يستوقفني هو النقد حين يصبح وظيفة.. وظيفة غالبا ما تخلو من الأحاسيس العميقة، والابتكار، همها ليس الشعر بحد ذاته بل الأحكام التي تتضمنها مقاييس تعارفت عليها أوساط كالجامعة والإعلام.
ما يستوقفني هو هذا البون الشاسع بين التطبيق والنصوص التي يستشهد بها، والتي يذهب ضحيتها لا الشعراء الصغار وحدهم، بل الكبار أيضا.
ثمة تطبيقات متعسفة على ما هوعادي في الشعر لمجرد تطبيق المقاييس التي تبدو حديثة جدا – في ظاهرها فقط - على ما هو قديم أو حديثٍ ميت وللتدليل على ذلك ثمة العشرات من الكتب التي لا يسع المجال لذكرها الآن.
وبدوري أتساءل : أليس النقد دراسة الهامش والمهمل والردئ أيضا؟ أليس الردئ أكثرصعوبة في الخضوع للنقد؟ وهذا ما أوضحه الناقد الإنجليزي ريتشاردز في أحد كتبه.
إن مشكلة الشعر، في الكثير من الأحيان، لا تكمن فيه، بل في علاقته بالمؤسسات الأكاديمية المتحجرة، والمحنطين من أساتذة، وادعياء شعر، وموظفي ثقافة، وإعلام مشوّه لا يرى في الشعر إلاّ ما هو قابل للتسويق ، غامضاً كان أم واضحاً.. معبراً عن الذات بحاجاتها وأحلامها وعذاباتها أو غير معبّر.. المهم أن يكون سلعة للتسويق لا تؤذي أحداً.
الأولى بمثل هذا النقد أن يبحث في أزمته هوأوّلا.
ما هو غائب عن هذا النقد أن تطور الشعر ليس مرهوناً بالشعر، وحده بل بمجمل العوامل المحيطة به من اجتماع وسياسة وثقافة بشكل عام، وقد يكون النقد أشد خضوعاً لمتطلبات هذه العوامل في آنيتها، وهذا مايجعل النقد ظرفيا أيضاً، في عاديته عندئذ يسود ما هو ردئ في النقد مثلما يسود ما هو ردئ في الشعر بينما يغيب الشعر الجيد حتى وإن كان حاضراً .

س3 / هل تعتقد أن استعمال التقنيات السردية في الشعر تضعف شعرية القصيدة ام انها تزيدها غنى..؟

* لعل من أطرف ما تلمسته من قراءاتي للشعر في العصور السابقة أن قصائده الباقية الخالدة هي التي استعملت التقنيات السردية : عندما أقرأ هايني مثلاً، أو غوته، فإنني قد أصاب بالملل غير أن حواسي سرعان ما تستيقظ عند قصائد معينة، وحين أبحث عن السبب لا أجده إلا في استخدام هذه التقنيات بالذات، باعتبارها الأشكال الأكثر تعبيراً عن الحياة اليومية وما ينطلق منها من مفاهيم لصيقة بالحياة.
منذ ملحمة جلجامش مروراً بشعرنا الجاهلي، ممثلا بامرئ القيس، والحطيئة، وبالشعر الأمويّ ممثلا بعمر ابن أبي ربيعة، وما لحقه من شعر عباسي، ممثلا بأبي نواس، وكوكبة الشعراء التي أحاطت به، وانتهاء بشعرنا العراقيّ الحديث ممثلا برواده وأجياله المتعاقبة لا يزال لهذه التقنيات حضورها المدهش في الشعر.
وما يقال عن شعرنا يقال أيضا عن شعر الأمم الأخرى: الهند منذ المهابهارتا وحتى شعرها الحديث الذي قرأناه في الانطولوجيات المترجمة إلى اللغة العربية أو في اللغات الأخرى.
وليس بعيداً عن الذاكرة هوميروس، ودانتي، وفرجيل، وملتن، وشعراء الأمم أخرى، ورواد الحداثة أيضاً : رامبو ، بودلير ، إليوت ، كفافي، بيسوا ....
في السرد تأكيد على المادة الحياتية، وكسر للبلاغة التي قد تقف أحيانا حائلاً دون تذوقنا للشعر.

س 4 / الكتابات التي تناولت بالنقد نتاجاتك على مدى مسيرتك الأدبية، كيف تعاملت معها بالإمتثال لأحكام النقد أم اللامبالاة؟

* الامتثال واللامبلاة قطبان متنافران لا يصح الحديث داخل تنافرهما هذا. ما من شاعر حقيقي يمتثل لاحكام النقد، مثلما لا يمكن لشاعر حقيقي ألاّ يكون لا مباليا بوجهات النظر الجادة في شعره، لاسيما إذا كان هذا الشاعر يستمد مادته نفسها من الناس، وما يحيط بهم أما أن يكون لا مباليا فهذا قد لا يتعلق بالشاعر نفسه، بل بالمادة النقدية نفسها: قيمتها، عمقها ، كشوفاتها.
الكتابات هي قراءات مبتكرة لقراء آخرين، وهذا يعني إنها توليد لنصي .. عندها يصبح نصي نصوصاً تتوالد وتتسع أو تتعمق بعيداً عن تصوري اللصيق بها وتسلطي وتفسيري. ألا يسعد ذلك الكاتب أيّ كاتب؟
 أستطيع أن أقول أن الكثير من هذه الكتابات كانت تحمل قراءاتها الخاصة، والمضيئة لي، ليس في فهم شعري، بل في فهم الآخر أيضا .
وما سرني في هذه الكتابات أنني كثيراً ما أكتشف فيها أبعاداً جديدة كلّ الجدة. إنها تمدني ثانية بأحاسيس وأفكار لم أختبرها من قبل، وهذا ما يعيدني إلى لحظة كتابتها الأولى.
ولعلني أبدو أكثر حظاً من غيري أن يكون من بين هذه الكتابات اللقاء الطويل الذي أجراه معي الكاتب والشاعرالمغربي عبدالقادر الجموسي، والذي نشر في كتاب تحت عنوان (الشاعر خارج النص)ا. لقد اعتبره الكثيرون من بين أفضل اللقاءات الشعرية لا لإجاباتي الخاصة، ولكن لعمق أسئلته وثقافة القائم به، وإخلاصه، ومعرفته الواسعة، باللغات والثقافات الأخرى، مما أتاح لي أن أتحرك في مساحة واسعة من الحياة والشعر. وهذا الكتاب متوفر في مواقع إلكترونية عدة.

س 5 / ماهو دور الرموز التي تعيش في ضمير ووجدان الكاتب.. هل هي حقاً آخر قوارب النجاة أمام المبدع لكي يتجنب الطوفان، سياسياً، واجتماعياً، وحتى دينياً؟

 *ما من رموز ثابتة لديّ لأتوقف عندها، حتى ولا أشكال ثابتة لأن الحياة من التعدد والغنى ما يجعل التوقف عند رموز معينة، أو أشكال معينة، هو الموت بعينه. حتى الرموز نفسها في الكتابة والحياة هي من الحركة والتغير ما لا يمكن حصرها في إطار واحد. ما هو رمز في مرحلة لايكون رمزا في مرحلة أخرى، وقد يستعيد قيمته في مرحلة لاحقة. إن الرموز نفسها في حركة دائمة وقد يحمل الرمز نقيضه في ذاته ، وقد يتكشف عن أبعاد لا تخطر لي في الحالتين: في المعرفة وفي العملية الإبداعية. قد أبدأ القصيدة بشئ أحسبه رمزاً، غير أن القصيدة تنتهي بمحوه. قد تجد الرموز لها مستقرا في الحياة العامة،ربما، ولكن الإبداع يتخطى كل ما هو متعارف عليه. لذلك تبدو القصائد، وهذا ينطبق على الأنواع الأخرى من الإبداع، كشفا متواصلا لما هو خارج الإنسان وداخله في آن واحد.
بعبارة أخرى أن الشعر (وهذا ينطبق على الإبداع عموما) لا يصارع خارجاً طوفانا ما برموز معينة. إنه في صراع مع الرموز ذاتها وهذا ما يلقي بمهمة كبيرة على عاتق المبدع، لا في صراعه اليومي، وإنما في صراعه الأكبر في تناول الحقيقة الملموسة الصلبة للانطلاق من صلابتها إلى التجريد وليس العكس. وهذا أيضا ما ينعكس في أشكال الشعر العديدة التي تجدها في شعري دوما .. أشكال تبدو متناقضة في الظاهر لكنّها تلتقي هناك في العمق .. في الجوهر. قد تبدو المسافة واسعة بين مجموعة وأخرى، ولكن هذه المسافة ما أقربها بالنسبة للمدقق في الشعر! وقد أدرك ذلك الكاتب والناقد والمترجم القدير الفلسطينيّ الراحل صلاح حزين حين كتب في جريدة الحياة متناولاً مجموعتي (زهيريات):
 " لا يعتبر حجم المنجز الشعري للعراقي عبد الكريم كاصد كبيراً من حيث الكم. فهو على مدى ثلاثين عاماً لم ينشر سوى تسعة كتب شعرية، لكن هذا المنجز كبير بمقياس آخر هو التجريب، فكاصد الذي نشر ديوانه الأول "الحقائب" عام 1975، واحد من أكثر أبناء جيله من الشعراء العراقيين ميلاً للتجريب. وبدأ رحلته مع التجريب الشعري عبر ديوانه الثاني "النقر على أبواب الطفولة" (بغداد 1978) وحوله بأكمله ما يشبه سيرة ذاتية شعرية لمرحلة الطفولة التي عاشها في مدينة البصرة، كتاب شعريّ، وفي الوقت نفسه كتابٌ عن ذكريات الطفولة يميزها أنها كتبت شعراً، كتاب/ مذكرات ضمنه المؤلف الشاعر رؤيته الى الحياة الشعبية في مدينة البصرة كما عاشها طفلاً في الخمسينات من القرن المنصرم، كتبها كما تذكرها شاباً بعيني الطفولة التي تربطها بالشعر الذي هو طفولة الفن وطفولة اللغة. انها وشائج أعطت الديوان خصوصية فنية من جهة ومضت بالشاعر نحو التجريب الذي سيواصله في ما بعد عبر كتابته القصيدة الحديثة وقصيدة النثر وشعر العامية العراقية، وعبر صوغ حكايات في شكل قصائد قصيرة منفصلة تشكل في النهاية مشهداً ينتمي إلى عالم القصة بقدر ما ينتمي إلى عالم الشعر كما في "حكايات من الحمراء" التي ضمنها ديوانه "قفا نبك"(دمشق 2003)".

س 6 / هل يستطيع الشاعر كتابة قصيدته ويرعاها في الضجيج؟

* هذا السؤال قد يرتبط بالسؤال الذي سبقه. ليس ثمة مواصفات لكتابة القصيدة. كُتبتْ قصائد عظيمة في الحروب، والكوارث، مثلما كُتبتْ قصائد عظيمة في العزلات. الشاعر الحقيقي هو الذي يتلقى تأثيرات العالم بانتباه شديد. إذا كانت النجوم – كما يرى البعض- لها تأثير على البشر فكيف لا يكون للعالم الذي يحيط به تأثير عليه؟. هل ثمة عزلة حقا للشاعر؟ كيف وقد اصبح العالم يلاحقك، حىتى وأنت في أشد عزلاتك انفراداً. أين هي تلك العزلة التي يتحدث عنها ووردزورث وعن نعيمها الذي بات مستحيلا؟. إنّ عيني المبدع تجولان في كل مكان في هذا العالم وليس في ذاته حسب. اللغة نفسها أهي خارج، أم داخل لصيق بالشاعر؟ . إن الحدود التي نتحدث عنها هي حدود وهمية قد تكون، وقد لا تكون لا لأنها هي هكذا في الواقع، بل لأن لتصوراتنا الدور الكبير في إيجادها أو إلغائها أو التوهم بصددها، ولكن الشعر العظيم لم يكن يوما بمنأى عن العالم الواسع، فهو يحضر في ذات الشاعر حتى وهي تتحدث عن العام بكلّ خصوصيتها.
قد أذهب أبعد من ذلك وأتساءل عن العزلة ذاتها : ماذا تعني؟ قد تكون مسكونة بالآخرين و قد يكون الوعي بها زائفاً، حين يتصور هذا الوعي أنه هو الذي يعبر عن ذات الشاعر .. في حين أن ذات الشاعر هي أوسع بكثير من هذا الوعي الذي لا يمكن أن يحدها.
في بعض نصوص الشعر التي تخلو من العلاقات الاجتماعية كما في بعض أشعار تيد هيوز تبدو هذه العلاقات أكثر حضورا وضجيجا مما هي في الواقع، وهذا يعتمد على قدرة الشاعر في التعامل مع موضوعه في مستوياته المختلفة.
من جهة أخرى لم يكتب رامبو قصائده في عزلة عن العالم، بل في قلب العالم وضجيجه الملئ بالأحداث وكذلك الشعراء ييتس، وألفريد أوين، وإليوت، والسياب، والمتنبي وشعراء آخرين.

س 7 / هل تعتقد بأنك حققت ما تريد إعلاميا؟

* ما يعنيني هو القصيدة. إنها مكافأتي الوحيدة وما عداها إضافات إن جاءت فمرحبا بها، وإن لم تجئ فلا أنتظرها. لست أنا ذلك الساخط لموقفٍ ما من شعري. ما يثير سخطي أبعد من ذلك: العالم الذي نعيش فيه.. العالم الذي لم يعد يحكمه مسار أو منطق.
الإعلام... ليس هو كلّ شئ. إنه لا يستغرق القراء ولا النقاد حتى ولا الجمهور بشكل ما، وقد يكون الإعلام نقيض الجمهور ذاته حين يكون زائفاً. ثمة شاعر كبير هو تيد هيوز لم يحصل على جائزة أو على التقدير الذي يستحقه من الإعلام طوال ثلاثين سنة من حياته، على الرغم من شهرته الواسعة.
تحضرني هنا كلمات الصديق الشاعر المغربي الدكتور محمود عبدالغني التي تلخص هذه العلاقة بحصافة والتي كتبها قبل أن تكون بيننا معرفة من قبل :
 "قرأت مؤخرا جزءا مهما من أشعار الشاعر عبد الكريم كاصد: "دقات لا يبلغها الضوء" و"قفا نبك". وهي أشعار مضت كغيرها، بلا سميع ولا سامع. فالإعلام لعب لعبته الخبيثة مع هذا الشاعر الذكي، الموهوب والقادر. حفر قبراً لقصائده أهال عليها التراب. وبقي يقضم أعشاب الشعر اليابسة. وهو الآن (هذا الإعلام) في طريقه إلى السفح، ولن تحميه الادعية من الانهيار. غير أن عبد الكريم مرتاح في هامشه. وقصائده، التي لا تجلس باكية، تزداد قوة وذكاء وقدرة، مثل شاعرها، الذي امتهن الوشاية بأحلامه إلى عقله الباطن، كما كتب في إحدى قصائده".
تغلب الصفة الدعائية على مجمل نشاطات الإعلام العربيّ، وهذه غالباً ما تكون ذات طابع سياسيّ ضيق مشحون بأوهامه وصراعاته، مما يحجب عنه الواقع الحقيقيّ .. أيّ واقع كان . إنه إعلام عام لا يشغله الحدث بقدر ما يشغله موقفه من الحدث وانعكاسات هذا الحدث على مساره وتوجهاته، أي بعبارة أخرى إعلام مؤسساتي مشوّه. وما يثير الحيرة في هذا الإعلام إنه يكاد يكون موحّداً في مصالحه، رغم اختلاف أنظمته المتصارعة حدّ الاحتراب أحياناً، وفي وحدته هذه ثمة تيقظ وقدرة على الصمت بالإجماع، في مواقف لا تتطلب الإجماع على الإطلاق، كيف تأتى للإعلام أن يتفق في ما لا يمكن الاتفاق عليه عبر الصمت، وليس التصويت، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق حتى في أشدّ الجبهات السياسية رسوخاً؟ كيف تأتى لسوريالي أن يكون مسؤولاً في موقع تقليديّ، وتقليديّ أن يكون مسؤولاً في موقع سوريالي؟ كيف تأتى لهذه الأنظمة المتخلفة أن تكون أكثر المتحمسين للثورة، وللحداثة، وكتابها؟ ما الذي يجمع هذه المفارقات؟ ما الموقف الذي يمكن أن يتّخذه الأدب ممثلا بمبدعيه وسط هذا اللهاث اليوميّ للإعلام الرسمي ؟ الصمت؟ الابتعاد؟ الانخراط ؟ المراوحة؟ ما الذي يفعله الأدب وسط إعلام مشغول بأعلامه، وجوائزه، ومسؤوليه القادرين على سرد منجزاتهم بقدرة مذهلة لعلها هي إنجازهم الوحيد؟.
ليس سهلاً أن يكون الكاتب في الهامش. وقد يكون الهامش أحيانا أكثر تأثيراً من متنٍ زائف.

س 8 / تبدو الكتابة أحياناً فعلاً ميؤوساً منه.. هل مررتَ بهذه التجربة العسيرة؟.. هل تقبلت فكرة أن يجف مداد القلم فجأة.. وأمامك أوراق لانهاية لها؟

* تؤرقني المعرفة أكثر مما تؤرقني الكتابة. وفي المعرفة ليس ثمة فعل ميؤوس منه، أو جفاف ما، وهذه متعة لمن يختبرها، فإن أضيفت إليها متعة الكتابة حينئد تصبح المعرفة نشوة أو وجدا هو أقرب إلى الوجد الصوفيّ، إن شئت، ولعل في هذه النشوة ما يجنبني أن أكون ضحية تجربتي دائما أو ما يجنبي الدخول في هذه الأحكام التي تعبر عن الذات الضيقة لا عن وسطها الذي تعيش فيه . لا أخشى الأوراق التي لا نهاية لها، وما أخشاه جفاف مداد الحياة لا جفاف قلمي، وهذا محال لأن الحياة لانهائية في امتدادها وعمقها في وجودي، ووجود الآخرين. منها أستمد شعري رفضا أو قبولا أو محاكمة. إن ما ارتاده الشعر هو جزء صغير مما لم يرتده بعد من واقع، وأحلام، وأخيلة، وآمال، وتفاصيل لا نهائية كلانهائية الحياة نفسها.
ثمة شعراء انقطعوا عن كتابة الشعر سنوات قد تبلغ العشرين سنة، أحيانا، وبعضهم لم ينشر في حياته إلا بضع قصائد، ولكن وياللغرابة أن شعرهم الذي كتب بعد رحيلهم أو انقطاعهم هو الأكثر تأثيراً من غيره في الأجيال الأخرى : جون دنْ، بول فاليري، هوبكنز، أميلي ديكنسون، وغيرهم. لم يكن انقطاعهم يأساً، بل موقفا لا تلخصه هذه اللفظة، لأنه أوسع بكثير مما نحصره في لفظة واحدة أو مفهوم واحد.

س 9 / الكلمات لا تعجز عن التعبير أبداً فهل مرت بك حالات توقف أو اشكال أمام قصيدة أو حالة ابداعية لا تفسير لها؟

* نعم . ثمة حالات يتوقف فيها الشاعر، حين يكون موضوعه من الاتساع ما يجعله غير قادر على الإحاطة به، أو حين يتنازع القصيدة شعور مضطرب متناقض، تماماً مثلما تنزع الأفكار أو المشاعر إلى نقيضها حتى في الأحوال التي هي أقل تشابكاً.
في قصيدتيّ مثلاً: (الغرف) و(سراباد) كنت أزاء موضوعين أو عالمين لا حدود لهما: سراباد بصحرائها الواسعة الممتدة بلا نهاية كالرحلة الموصوفة فيها ، والغرف بتعددها وضيقها وانغلاقها وانفتاحها أحياناً.
في القصيدة الأولى لم تحضر لفظة سراباد أوّل الأمر وحين حضرت حضرت القصيدة معها بعد أن توقفتُ عن كتابتها زمناً.
وفي الغرف وجدتُ نفسي ضائعاً وسط غرف، لا حصر لها، عشتها في حياتي ، لا أدري بم أبدأ وكيف أنتهي.. فجأة وإذا الغرف تصطفّ فتصطفّ معها القصيدة وتكتمل بعد أن يئست من حضورها.
حقّا يمكن للشاعر أن يفسر توقفه عن القصيدة ولكن من الصعب تفسير حضورها المفاجئ وقد اكتملت فكأنها هي التي تكتب عالمها.

س 10 / ما هي طقوس الكتابة عندك.. هل ثمة أسرار تسبق الكتابة هل تشعر بجدوى ما فات من سهر وارهاق وغربة وحنين، من أجل كتاب آخر يضاف إلى رفوف مكتبات العالم؟

* كما قلت لك إنني لا أبحث عن جدوى كتابي أو عدم جدواه. لقد وجدتني هكذا منذ سن مبكرة أقرأ وأكتب ولا أبحث عن جدوى كتابتي. ما يقلقني الحياة ذاتها.. العالم ذاته وليس الكتابة.. الكتابة تأتي آخراً وإن لم تتأخر معي يوما. ربما لأنني قارئ شغف بالكتب والحياة معاً، أو لأنني أرى جدوى كبيرة في الكتب والحياة معا لولا ما يسود حياتنا من نقيض لهما. أما أسرار الكتابة فإنها تظل أسرارا حتى بالنسبة إلى كتابها، وقد تختلف هذه الإسرار من كاتب إلى آخر لأن جانبا كبيراً فيها يمتد عميقا في حياة الكاتب الخارجية، وفي أعماقه أيضاً، ويصبح من الصعب أحيانا التمييز بين الاثنين وقد يعكس أحدهما الآخر بعملية من الصعب إدراكها، لذلك تبدو مهمة النقد التي تحدثنا عنها في غاية الصعوبة في إدراك كلّ ذلك .أما إذا شئنا أن نتحدث عن طقوس الكتابة وتعازيمها فلا طقوس لديّ ثابتة ولا تعازيم ولكنني أستطيع القول إنّ كلّ الأوقات يمكن أن تكون ملائمة للكتابة، مثلما يمكن أن تكون كلّ الأمكنة ملائمة لها، فلاوقت له طقسه لدي ولامكان له هيمنته عليّ.

س 11 / أمنية لم تتحقق؟

* أمانٍ كثيرة لم تتحقق على بساطتها . تمنيتها واحدة.

س 12 / نريد أن نقف على جديدك وآخر مشاريعك الإبداعية؟

 صدر لي السنة الماضية 12 كتاباً في القاهرة ودمشق وعمان، ثلاثة منها احتوت على نصوص سردية وكتاب رابع عن الترجمة وخامس ضمّ حوارات أجريت معي، ومجموعتان شعريتان، وأربعة كتب مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية للشعراء: رافائيل ألبرتي، مارين سوريسكو، ميروسلاف هولوب، آر.إس. توماس، كما صدر لي ديوان الحقائب بطبعته الثالثة وهذه الكتب هي نتاج سنوات عديدة سابقة شاءت الصدفة أن تطبع في عام واحد.
لديّ الآن كتب أخرى تحت الطبع ربما ستصدر في مفتتح السنة القادمة أو نهاية هذا العام.

 (جريدة الاتجاه الثقافي- بغداد)